كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا سيد أهل الأذواق والمواجيد والكشوف والأحوال من هذه الأمة المحدث المكاشف عمر رضي الله عنه لا يلتفت إلى ذوقه ووجده ومخاطباته في شيء من أمور الدين حتى ينشد عنه الرجال والنساء والأعراب فإذا أخبروه عن رسول الله بشيء لم يلتفت إلى ذوقه ولا إلى وجده وخطابه بل يقول: لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره ويقول: أيها الناس رجل أخطأ وامرأة أصابت فهذا فعل الناصح لنفسه وللأمة رضي الله عنه ليس كفعل من غش نفسه والدين والأمة.
القاعدة الثانية:
أنه إذا وقع النزاع في حكم فعل من الأفعال أو حال من الأحوال أو ذوق من الأذواق هل هو صحيح أو فاسد؟ وحق أو باطل؟ وجب الرجوع فيه إلى الحجة المقبولة عند الله وعند عباده المؤمنين وهي وحيه الذي تتلقى أحكام النوازل والأحوال والواردات منه وتعرض عليه وتوزن به فما زكاه منها وقبله ورجحه وصححه فهو المقبول وما أبطله ورده فهو الباطل المردود ومن لم يبن على هذا الأصل علمه وسلوكه وعمله: فليس على شيء من الدين وإن وإن وإنما معه خدع وغرور24: 39 {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
القاعدة الثالثة:
إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء: هل هو الإباحة أو التحريم؟ فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي ولاسيما إذا كان طريقا مفضيا إلى ما يغضب الله ورسوله موصلا إليه عن قرب وهو رقية له ورائد وبريد فهذا لا يشك في تحريمه أولو البصائر فكيف يظن بالحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر لأنه يسوق النفس إلى السكر الذي يسوقها إلى المحرمات ثم يبيح ما هو أعظم منه سوقا للنفوس إلى الحرام بكثير؟ فإن الغناء كما قال ابن مسعود رضي الله عنه هو: رقية الزنا وقد شاهد الناس: أنه ما عاناه صبي إلا وفسد ولا امرأة إلا وبغت ولا شاب إلا وإلا ولا شيخ إلا وإلا والعيان من ذلك يغني عن البرهان ولاسيما إذا جمع هيئة تحدو النفوس أعظم حدو إلى المعصية والفجور بأن يكون على الوجه الذي ينبغي لأهله من المكان والإمكان والعشراء والإخوان وآلات المعازف: من اليراع والدف والأوتار والعيدان وكان القوال شادنا شجي الصوت لطيف الشمائل من المردان أو النسوان وكان القول في العشق والوصال والصد والهجران.
ودارت كؤوس الهوى بينهم ** فلست ترى فيهم صاحيا

فكل على قدر مشروبه ** وكل أجاب الهوى الداعيا

فمالوا سكارى ولا سكر من ** تناول أم الهوى خاليا

وجار على القوم ساقيهم ** ولم يؤثروا غيره ساقيا

فمزق منهم قلوبا غدت ** لباسا عليه يرى ضافيا

فلم يستفيقوا إلى أن أتى ** إليهم منادي اللقا داعيا

أجيبوا فكل امرئ منكم ** على حاله ربه لاقيا

هنالك تعلم من حمأة ** شربت مع القوم أم صافيا

وبالله لابد قبل اللقا ** سنعلم ذا إن تك واعيا

لابد تصحو فإما هنا ** وإما هناك فكن راضيا

فصل:
وإذا لم يكن بد من المحاكمة إلى الذوق فهلم نحاكمك إلى ذوق لا ننكره نحن ولا أنت غير هذه الأذواق التي ذكرناها.
فالقلب يعرض له حالتان: حالة حزن وأسف على مفقود وحالة فرح ورضى بموجود وله بمقتضى هاتين الحالتين عبوديتان.
وله بمقتضى الحالة الأولى: عبودية الرضاء وهي للسابقين والصبر وهي لأصحاب اليمين.
وله بمقتضى الحالة الثانية: عبودية الشكر والشاكرون فيها أيضا نوعان: سابقون وأصحاب يمين فاقتطعته النفس والشيطان عن هاتين العبوديتين بصوتين أحمقين فاجرين هما للشيطان لا للرحمن: صوت الندب والنياحة عند الحزن وفوات المحبوب وصوت اللهو والمزمار والغناء عند الفرح وحصول المطلوب فعوضه الشيطان بهذين الصوتين عن تينك العبوديتين.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه في حديث أنس رضي الله عنه: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت ويل عند مصيبة وصوت مزمار عند نعمة».
ووافق ذلك راحة من النفس وشهوة ولذة وسرت فيها تلك الرقائق حتى تعبد بها من قل نصيبه من النور النبوي وقل مشربه من العين المحمدية وانضاف ذلك إلى صدق وطلب وإرادة مضادة لشهوات أهل الغي وأهل البطالة ورأوا قساوة قلوب المنكرين لطريقتهم وكثافة حجبهم وغلظة طباعهم وثقل أرواحهم وصادف ذلك تحريكا لسواكنهم وانقيادا للواعج الحب وإزعاجا للنفوس إلى أوطانها الأولى ومعاهدها التي سبيت منها والنفوس الطالبة المرتاضة السائرة لابد لها من محرك يحركها وحاد يحدوها وليس لها من حادي القرآن عوض عن حادي السماع.
فتركب من هذه الأمور: إيثار منهم للسماع ومحبة صادقة له تزول الجبال عن أماكنها ولا تفارق قلوبهم إذ هو مثير عزماتهم ومحرك سواكنهم ومزعج بواطنهم.
فدواء صاحب مثل هذا الحال: أن ينقل بالتدريج إلى سماع القرآن بالأصوات الطيبة مع الإمعان في تفهم معانيه وتدبر خطابه قليلا قليلا إلى أن فيخلع قلبه محبة سماع الأبيات ويلبس محبة سماع الآيات ويصير ذوقه وشربه وحاله ووجده فيه فحينئذ يعلم هو من نفسه: أنه لم يكن على شيء ويتمثل حينئذ بقول القائل:
وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى ** إلى غاية ما فوقها لي مطلب

فلما تلاقينا وعاينت حسنها ** تيقنت أني إنما كنت ألعب

ومنافاة النوح للصبر والغناء للشكر: أمر معلوم بالضرورة من الدين لا يمتري فيه إلا أبعد الناس من العلم والإيمان فإن الشكر إنما هو الاشتغال بطاعة الله لا بالصوت الأحمق الفاجر الذي هو للشيطان وكذلك النوح ضد الصبر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في النائحة وقد ضربها حتى بدا شعرها وقال: «لا حرمة لها إنها تأمر بالجزع وقد نهى الله عنه وتنهى عن الصبر وقد أمر الله به وتفتن الحي وتؤذي الميت وتبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها».
ومعلوم عند الخاصة والعامة: أن فتنة سماع الغناء والمعازف أعظم من فتنة النوح بكثير والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب: أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدو وبلوا بالقحط والجدب وولاة السوء والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر والله المستعان.
ولا تستطل كلامنا في هذه المنزلة فإن لها عند القوم شأنا عظيما.
وأما قولهم: «من أنكر على أهله فقد أنكر على كذا وكذا ولي لله» فحجة عامية نعم إذا أنكر أولياء الله على أولياء الله كان ماذا فقد أنكر عليهم من أولياء الله من هو أكثر منهم عددا وأعظم عند الله وعند المؤمنين منهم قدرا وأقرب بالقرون المفضلة عهدا وليس من شرط ولي الله العصمة وقد تقاتل أولياء الله في صفين بالسيوف ولما سار بعضهم إلى بعض كان يقال: سار أهل الجنة إلى أهل الجنة وكون ولي الله يرتكب المحظور والمكروه متأولا أو عاصيا لا يمنع ذلك من الإنكار عليه ولا يخرجه عن أصل ولاية الله وهيهات هيهات أن يكون أحد من أولياء الله المتقدمين حضر هذا السماع المحدث المبتدع المشتمل على هذه الهيئة التي تفتن القلوب أعظم من فتنة المشروب وحاشا أولياء الله من ذلك وإنما السماع الذي اختلف فيه مشايخ القوم: اجتماعهم في مكان خال من الاغيار يذكرون الله ويتلون شيئا من القرآن ثم يقوم بينهم قوال ينشدهم شيئا من الأشعار المزهدة في الدنيا المرغبة في لقاء الله ومحبته وخوفه ورجائه والدار الآخرة وينبههم على بعض أحوالهم من يقظة أو غفلة أو بعد أو انقطاع أو تأسف على فائت أو تدارك لفارط أو وفاء بعهد أو تصديق بوعد أو ذكر قلق وشوق أو خوف فرقة أو صد وما جرى هذا المجرى.
فهذا السماع الذي اختلف فيه القوم لا سماع المكاء والتصدية والمعازف والخمريات وعشق الصور من المردان والنسوان وذكر محاسنها ووصالها وهجرانها فهذا لو سئل عنه من سئل من أولي العقول لقضى بتحريمه وعلم أن الشرع لا يأتي بإباحته وأنه ليس على الناس أضر منه ولا أفسد لعقولهم وقلوبهم وأديانهم وأموالهم وأولادهم وحريمهم منه والله أعلم.
وقال ابن القيم أيضًا:
السماع على ثلاث درجات: سماع العامة وهو ثلاثة أشياء: إجابة زجر الوعيد رغبة وإجابة دعوة الوعد جهدا وبلوغ مشاهدة المنة استبصارا.
الوعيد: يكون على ترك المأمور وفعل المحظور وإجابة داعيه: هو العمل بالطاعة.
وقوله: رغبة يعني امتثالا لكون الله تعالى أمر ونهى وأوعد.
وحقيقة الرجاء: الخوف والرجاء فيفعل ما أمر به على نور الإيمان راجيا للثواب ويترك ما نهى عنه على نور الإيمان خائفا من العقاب.
وفي الرغبة فائدة أخرى وهي أن فعله يكون فعل راغب مختار لا فعل كاره كأنما يساق إلى الموت وهو ينظر.
وأما إجابة الوعد جهدا: فهو امتثال الأمر طلبا للوصول إلى الموعود به باذلا جهده في ذلك مستفرغا فيه قواه.
وأما بلوغ مشاهدة المنة استبصارا: فهو تنبه السامع في سماعه إلى أن جميع ما وصله من خير فمن منة الله عليه وبفضله عليه من غير استحقاق منه ولا بذل عوض استوجب به ذلك كما قال تعالى: 49: 17 {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
وكذلك يشهد أن ما زوي عنه من الدنيا أو ما لحقه منها من ضرر وأذى فهو منة أيضا من الله عليه من وجوه كثيرة ويستخرجها الفكر الصحيح كما قال بعض السلف: يا ابن آدم لا تدري أي النعمتين عليك أفضل: نعمته فيما أعطاك أو نعمته فيما زوى عنك؟ وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه «لا أبالي على أي حال أصبحت أو أمسيت إن كان الغنى إن فيه للشكر وإن كان الفقر إن فيه للصبر» وقال بعض السلف: نعمته فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما بسط لي منها إني رأيته أعطاها قوما فاغتروا.
إذا عم بالسراء أعقب شكرها ** وإن مس بالضراء أعقبها الأجر

وما منهما إلا له فيه نعمة ** تضيق بها الأوهام والبر والبحر

فإن قلت: فهل يشهد منته فيما لحقه من المعصية والذنب؟.
قلت: نعم إذا اقترن بها التوبة النصوح والحسنات الماحية كانت من أعظم المنن عليه كما تقدم تقريره.
فصل:
قال: وسماع الخاصة: ثلاثة أشياء شهود المقصود في كل رمز والوقوف على الغاية في كل حين والخلاص من التلذذ بالتفرق.
والمقصود في كل رمز: هو فإن المسموع كله يعرف به وبصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه ووعده ووعيده وأمره ونهيه وعدله وفضله وهذا الشهود ينال بالسماع بالله ولله وفي الله ومن الله.
أما السماع به: فأن لا يسمع وفيه بقية من نفسه فإن كانت فيه بقية قطعها كمال تعلقه بالمسموع فيكون سماعه بقيوميته مجردا من التفاته إلى نفسه.
وأما السماع له: فأن يجرد النفس في السماع من كل إرادة تزاحم مراد الله منه وتجمع قوى سمعه على تحصيل مراد الله من المسموع.
وأما السماع فيه: فشأن آخر وهو تجريد ما لا يليق نسبته إلى الحق من وصف أو سمة أو نعت أو فعل مما هو لائق بكماله فيثبت له ما يليق بكماله من المسموع وينزهه عما لا يليق به.